كتب ألوف بن، رئيس تحرير صحيفة هآرتس، أنّ موجة الحرّ الشديدة التي ضربت المنطقة هذا الأسبوع لا تُفرّق بين الإسرائيليين والفلسطينيين. غير أنّ الإسرائيليين يختبئون داخل البيوت والمكاتب والسيارات المكيّفة، بينما يواجه المحاصرون في غزة رطوبة خانقة فوق جوعهم وعطشهم وخوفهم الدائم من الموت. الأزمة الإنسانية الناتجة عن القيود الإسرائيلية على المساعدات تتفاقم رغم الضغوط الدولية، فيما لا يتوقف القصف، والسلطات تستعدّ لمرحلة جديدة من الحرب هدفها “إبادة حماس”.
أشارت صحيفة الجارديان إلى أنّ غالبية الإسرائيليين تحصّنوا نفسيًا ضد مشاهد المأساة في غزة. الإعلام الرسمي والحكومة يقنعانهم بأنّ المجاعة مجرد دعاية من حماس أو أكاذيب “معادية للسامية”، ولهذا لا يشعرون بأي مأزق أخلاقي. فبعد نحو عامين من الحرب، الحياة في تل أبيب تعود إلى إيقاعها المعتاد: مطاعم وشواطئ مكتظة ومطار يعجّ بالسياح.
الاقتصاد يحقق أرقامًا تفوق التوقعات، والمعارضة للحرب تكاد تقتصر على القلق حيال مصير الأسرى الإسرائيليين في أنفاق غزة وتراجع الحافز للتجنيد الاحتياطي وازدياد حالات الصدمات النفسية والانتحار بين الجنود. ومع ذلك، يمنح معظم الإسرائيليين، حتى المنتقدين الشرسين لنتنياهو، ضوءًا أخضر لاستمرار العقاب الجماعي لغزة.
هذا التراخي الشعبي يسمح لرئيس الوزراء بالتركيز على لعبته المفضلة: المناورات السياسية والسيطرة على الإعلام. هدفه الحالي إخضاع المؤسسة العسكرية. فالحرب وفّرت له فرصة غير مسبوقة لتصفية حساباته التاريخية مع قادة الجيش والاستخبارات الذين شكلوا نواة المؤسسة الليبرالية التقليدية، وكانوا دائمًا منافسيه الأشد خطرًا. منذ رابين مرورًا بباراك وشارون وصولًا إلى غانتس وآيزنكوت، خاض نتنياهو معارك طويلة معهم ونجا سياسيًا، لكنه ظل مكبّلًا بفيتو غير معلن من المؤسسة الأمنية على قرارات الحرب والسلام.
بعد هجوم السابع من أكتوبر 2023، الذي فشلت الأجهزة في توقعه واحتوائه، وجد نتنياهو فرصته الذهبية. حمّل القيادات الأمنية المسؤولية، منع أي تحقيق مستقل، وأطلق موجة تطهير أطاحت بقادة بارزين ليستبدلهم بمقرّبين. هكذا استطاع نسب النجاحات ضد حزب الله وإيران وحتى سقوط نظام الأسد إلى نفسه، مكرّسًا صورة الزعيم الوحيد القادر على قيادة المعركة.
لكن السيطرة على الجيش لم تكن سهلة. أراد أن يحوّله إلى ذراع من أذرع “عبادة بيبي (نتنياهو)”، كما فعل حليفه المتطرف إيتمار بن غفير مع الشرطة والسجون. فاختار إيال زمير رئيسًا جديدًا للأركان، رجلًا قوي البنية خدم مساعدًا عسكريًا له سابقًا، وتوقّع منه الولاء المطلق. سارع الإعلام اليميني لتسويقه بصفته قائدًا هجوميًا سيقضي على حماس ويحافظ على إعفاء المتدينين من الخدمة.
في البداية بدا زمير متماشيًا مع الخط. إذ خرق الجيش هدنة قصيرة في مارس، صعّد القصف وأوقف تدفق المساعدات، ثم شنّ عملية جديدة في مايو هدفها “تصفية حماس” ودفع سكان غزة نحو التهجير. لكن سرعان ما كشف القائد الجديد أولويات مغايرة: رفض المخاطرة المفرطة بحياة جنوده والأسرى، وأصدر آلاف أوامر التجنيد للشباب الحريديين، متحديًا رغبات نتنياهو. ومع تعهّد الحكومة باجتياح ما تبقى من غزة ولو على حساب الأسرى، هدد زمير بالاستقالة.
تفاعل نتنياهو كعادته عبر التحريض غير المباشر. ابنه يائير اتهم زمير بمحاولة “انقلاب عسكري”، وتصاعدت الأزمة في اجتماع مجلس الأمن المصغر في السادس من أغسطس، حيث حذّر القائد من وقوع الجيش في “فخ” يهدد الأسرى. جرى التوصل إلى حل وسط: اجتياح مدينة غزة فقط وتهجير سكانها البالغ عددهم مليون نسمة وتدميرها بالكامل، مع مهلة شهرين قبل التنفيذ لإتاحة فرصة لصفقة تبادل.
لكن الصراع لم ينتهِ. وزير الدفاع يواصل الضغط على زمير، وفكرة إقالة رئيس الأركان بعد أشهر قليلة صارت مقبولة علنًا، مع تداول أسماء جنرالات “أكثر هجومية” وأكثر طاعة لرئيس الوزراء. هكذا يتواصل تفكك المؤسسة العسكرية على إيقاع طموحات نتنياهو في الهيمنة.
كل هذا يحدث بينما يعاني مليونا إنسان في غزة من الجوع والحرمان، والأسرى يتألمون في الأنفاق. وفي الداخل الإسرائيلي، دعا ناشطون إلى احتجاج وإضراب عام للمطالبة بوقف الحرب واستعادة الأسرى، وحظيت المبادرة بدعم شعبي واسع في استطلاعات الرأي. غير أنّ نتنياهو يواصل التشبّث بمساره المزدوج: ترسيخ التطهير العرقي في غزة وتركيز السلطة بين يديه. المفارقة أنّ زمير، الذي صُوِّر كحليف مطيع، صار رمزًا لمقاومة هذه الأجندة، شأنه شأن منافسي نتنياهو العسكريين على مدى عقود.
في النهاية، يوضح الكاتب أنّ نتنياهو يهوى ترك جميع الخيارات مفتوحة وإرباك خصومه بسرديات متناقضة. غير أنّ أمرين ثابتان: شغفه اللامحدود بالسلطة وطول البقاء في الحكم، وتزايد أعداد القتلى في غزة بفعل القصف والجوع، بينما يواصل الإسرائيليون إدارة ظهورهم للمأساة.
https://www.theguardian.com/commentisfree/2025/aug/15/benjamin-netanyahu-gaza-starve-israel-tel-aviv